البائس الحيران
بسم الله الرحمن الرحيم
بلغنا
عن بعض السلف أنه قال : رأيت في بعض الجبال شاباً أصفر اللون غائر العينين
، مرتعش الأعضاء ، لا يستقر على الأرض ، كأن به وخز الأسنة ، ودموعه
تتحادر .
فقلت له : من أنت ؟
فقال : آبق من مولاه .
قلت : فتعود وتعتذر .
فقال : العذر يحتاج إلى إقامة حجة فكيف يعتذر المقصر ؟
فقلت : تتعلق بمن يشفع فيك .
فقال : كل الشفعاء يخافون منه ؟
قلت : فمن هو ؟
قال
: مولاي رباني صغيرا فعصيته كبيرا ، شرط لي فوفاني ، وضمن لي فأعطاني ،
فخنته في ضماني ، وعصيته وهو يراني ، فواحيائي من حسن صنعه وقبيح فعلي .
فقلت : أين هذا المولى ؟
فقال : أين توجهت لقيت أعوانه ، وأين استقرت قدمك ففي داره .
فقلت : ارفق بنفسك فربما أحرقك هذا الخوف .
فقال : الحريق بنار خوفه - لعله يرضى - أحق وأولى . ثم أنشأ يقول
لم يبق خوفك لي دمعا ولا جلدا*** لا شك أني بهذا ميت كمدا
عبد كئيب أتى بالعجز معترفا *** وناره تحرق الأحشاء والكبدا
ضاقت مساكنه في الأرض من وجل *** فهب لي منك لطفا إن لقيت غدا
فقلت : يا غلام ، الأمر أسهل مما تظن .
فقال : هذا من فتنة البطالين ، هبه تجاوز وعفا ، أين آثار الإخلاص والصفاء ؟ ثم صاح صيحة ، فخرجت عجوز من كهف الجبل ، عليها ثياب رثة .
فقالت : من أعان على البائس الحيران ؟
فقلت : يا أمة الله دعوته إلى الرجاء؟
فقالت : قد دعوته إلى ذلك .فقال : الرجاء بلا صفاء شرك .
قلت : من أنتِ منه ؟
قالت : والدته .
فقلت : أقيم عندك أعينك عليه ؟
فقالت : خله ذليلا بين يدي قاتله عساه يراه بعين معين فيرحمه .
فلم أدر مما ذا أعجب ؟ من صدق الغلام في خوفه أو من قول العجوز وصدقها .
صفة الصفوة / لإبن الجوزي _رحمه الله