يهتم القرآن اهتماماً بالغاً ببناء العقيدة بطريقته الفريدة ,والعقيدة
بمعناها المطلق : الإيمان بوجود خالقٍ لهذا الكون ، ثم وجود مجموعة من
التصورات في أذهان الناس حول هذا الخالق تطبع بطابعها واقع الحياة في الأرض
, وهذا كله لا يحتاج إلى كتاب منـزل ولا إلى رسول مرسل , فما نزل القرآن
ليقول للناس أن هناك إلهاً , فإنهم يعرفون ذلك بغير قرآن , ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) لقمان آيـة 25 , بل نزل القرآن ليحدث الناس عن العقيدة الصحيحة و ليقول لهم .( اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ) الأعراف آيـة59 .
ولم
تكن مشكلة البشرية أنهم لا يعرفون وجود الله و لا يعبدونه بصورة من الصور
, إنما مشكلتهم أنهم لا يعرفونه المعرفة الحقة ومن ثم لا يعبدونه كما
ينبغي , ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) الزمر آيـة67.
إن
الفطرة البشرية تتجه إلى الله تعالى من تلقاء نفسها بغير كتاب منزل ولا
رسول مرسل فلقد أودع الله فيها هذا التوجه إلى الخالق بطريقة لا نعلمها , (وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى
شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ ) الأعراف آيـة172,كيف أشهدهم ؟ لا نعرف ولكننا نرى في
عالم الواقع أن البشر يتجهون فطرة إلى عبادته ، ولو لم يأمرهم أحد أو
يوجههم إليه ، ولكنهم كثيراً ما يضلون في تصوراتهم للخالق سبحانه ،
فيتصورنه على غير حقيقته ، ويتصورون وجود آلهة أخرى معه ، ثم يعبدونه على
هوى أنفسهم ، بغير ما تعبَّدهم ، به ويشركون معه في العبادة تلك الآلهة
المزعومة ، ليقربوهم إليه زلفى كما يزعمون , (
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ
كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) الزمر آيـة3 ,أو يعبدون تلك الآلهة المزعومة وحدها من دون الله .
والعجيب أن القرآن سجل على العرب معرفتهم بالله و بنفس الوقت وصفهم بأنهم لا يعلمون,( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )
لقمان آيـة25. فلم يعتبر معرفتهم السابقة علماً ، ولم يجعل هذه المعرفة
رصيداً لهم يضيف إليه بيانات جديدة عن الله ، إنما محاها محواً ، واعتبرها
جهلاً ، وبدأ معهم من نقطة الصفر باعتبار أنهم لا يعلمون .
و كون أن الله هو خالق الإنسان كان معروفاً لديهم ، وسـجل القرآن عليهم ذلك ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) الزخرف آيـة87.
وكون الإنسان مخلوقاً من علق كان معروفاً لديهم كذلك ، وسجل القرآن عليهم ذلك (كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ) المعارج آيـة39
فما الفرق إذن ؟؟
الفرق ليس في المعلومات ذاتها ولكنه في طريق المعرفة ، وثمرتها والتفاعل معها ..
هنالك
كانت معلومات باردة ميتة لأنها في محيط الذهن وحده . وهنا يراد لها أن
تكون معلومات حية ونابضة، لأنها لا تستكنّ في الذهن ، إنما تنتقل إلى القلب
، فتنبض في وجدان حيّ فتتحول إلى سلوك إيماني .
( اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى . أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى . إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) العلق من آيـة1 إلى 8 .
هنا
لا يجئ خلق الإنسان من علق مجرد معلومات .. ولا كذلك تعليم الله للإنسان
ما لم يعلم .. إنما يجيئان لتحريك وجدان الإنسان نحو الله الخالق واهب
العلم ، بما ينبغي من الشكر على نعمة الخلق ، ونعمة التعليم .. وربما كانت
الثانية أفعل ، لأن الإنسان يجد نفسه وقد خلق بالفعل ، فينسى ! ينسى أن
الله هو الذي خلقه .
ولكن
التعليم يتم و الإنسان مدرك ، وينتقل الإنسان أمام عين نفسه من حالة
الجهل إلى حالة العلم ، فهو حرى أن يحس بالنعمة ويَقْدُرَها ..
وهذا
الإيحاء الذي تعطيه الآيات الأولى من السورة ، وهو تحريك الوجدان لشكر
الله ، يتبين واضحاً حين نصطـدم بحالة ذلك الإنسان المنعم عليه تلك النعم
وهو في حالة طغيان ( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ) العلق آيـة6 , ولماذا يطغى ؟ ألأن الله عز وجل أعطاه !!
أي أن ذات السبب الذي كان ينبغي أن يؤدي إلى الإيمان و الشكر ، صار يؤدي إلى الطغيان و الكفر .
وهذه
المفارقة بين الحالة القائمة بالفعل ، والحالة التي ينبغي أن تكون ، هي
التي تحرك الوجدان للإحساس بقيمة النعمة الربانية وواجب الإنسان السليم
الفطرة إزائها ..
ثم يجئ ختـام هـذا المقطـع الأول من السورة ليحرك الوجدان حركة أخرى ، بالإضافة إلى السابقة ( إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) العلق آيـة8 ,فيبدو هذا الطاغية الصغير ، المنتفش في الأرض بغير الحق وقد قُطِع عليه الطريق فجأة !
إن يداً جبارة قد قطعت طريقه وهو سائر منتفش متعالٍ على الخالق ، ثم أمرته بالرجوع !
والرجوع إلى أين ؟ إلى الله .. إلى ( رَبِّكَ ) الذي منحك ذلك كله فكفرت به وطغيت !
وهنا يزول عنه انتفاشه الباطل ، وطغيانه المفتون ، فيأخذ مكانه الحق : ذليلاً أمام الرب الذي خلق وأعطى ، فما قَدَرَه حق قَدْرِه .
هكذا
يتبين لنا كيف انتقلت تلك المعلومات من حالتها الآسنة الميتة الباردة ،
لتصبح نبضاً حياً في القلب ، لتتحول من ثم إلى سلوك واقعي !
ويتبين لنا كـذلك الـفرق بـين معرفة الرجل الجاهلي بأن الله موجود وخالق ، و التي قال الله عنها (
وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ َالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) لقمان آيـة25 ,
وبين معرفة الرجل المؤمن بـهذه الحقيقة ذاتها ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِـرَةَوَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَوَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَـا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) الزمر آيـة9 .
فندرك لماذا سمّى الله عرب الجاهلية ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )
ولماذا قال جل جلاله : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَوَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) الزمر آيـة9 , كلا ! إنهم لا يستوون ! , ذلك مع معرفتهم بتلك المعلومات التي سجلها عليهم
وإذا تتبعنا كل ما كان عند العرب من معلومات عن الله سبحانه وتعالى . نجد القرآن قد عاملها ذات المعاملة .
سجل عليهم علمهم بها ، لا ليعتبره علم . ولا ليبدأ منه ثم يكمل .. كلا !
بل ليمحوه محواً ، ويبدأ من جديد ..
من
ذات المعلومات ، ولكن بطريقته الخاصة التي تحولها إلى نبض حيّ وسلوك
واقعي ! إنه في الواقع يستنبت بذرة جديدة في قلوبهم ، قد تكون فيها مشابهة
من البذرة الأولى التي كانت موجودة من قبل ، ولكنها غيرها على وجه
التأكيد !
إن القديمة أسنت وتعفنت فما عادت تصلح للاستنبات ! وهذه غيرها ..
جديدة
تماماً .. تستنبت من جديد .. بعد تحريك القلب لينبض ، ليمد البذرة
الجديدة بالقوة والنماء لذلك .. فما أضل الذين يكتبون مدافعين عن العرب
في الجاهلية بقولهم إنه كانت عندهم حضارة و معلومات .
يريدون ليقولوا - بل بعضهم يقول بالفعل - إنهم لم يكونوا جاهلين , ما أضلهم إذ يقيسون الأمر بالمعلومات !
فهل كان عند العرب في الجاهلية من المعلومات ما عند أوربا اليوم في القرن الواحد والعشرين ؟!
ومع ذلك فأوربا اليوم في قمة الجاهلية ، عن طريق هذه المعلومات بالذات لأنهم ، كما يقول القرآن ، ( فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ العِلْمِ ) غافر آيـة83 ( نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) الحشر آيـة19, وأضلهم وأشقاهم .. بعلمهم الذي يتيهون به ، فيتيهون فيه
إنها ليست المعلومات كما أسلفنا ولكنها طريقة المعرفة طريقة تؤدي إلى عبادة الله ؟ أم تؤدي إلى عبادة الشيطان ؟ .
.................................................. .....
بقلم الأستاذ عبد المنعم الشالاتي