الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتداه .
نكمل بحول الله تعالى تفسير سورة الأعلى .
قد رأينا ما لهذه السورة الفضيلة من شأن وحب عند النبي صلى الله عليه وسلم وتطرقنا لهذا الموضوع لنرى ما في آيات هذه السورة من عبر وعظات نحاول بحول الله تعالى أن نستخلصها ونستشفها من فيض السر الذي أودعه الله فيها وأمر عباده بالتذبر والتمعن عسى ذلك أن يقود للعمل وما أحوجنا اليوم بأن نعمل بالقرآن في جميع مناحي الحياة .
فعلى الله الثكلان ومنه الفضل والإمتنان .
رب يسر وأعن يا كريم .
قال الله تعالى :"سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) ."
كيف يكون تسبيح الله تعالى ؟
أولا : نفي الشريك عنه فهو الله وحده لا شريك له يتصرف في ملكه كيف يشاء ، هو المعطي والمانع والضار والنافع ، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، يعز من يشاء ويذل من يشاء ، لذلك فنعبده وحده وننبد عبادة ما سواه من الأوتان والأصنام ، فلا نعبد شمسا ولا قمرا ولا شجرا ولا حجرا ولا عجلا ولا بقرا ، ولا نطمع فيما سوى الله ولا نتوكل إلا على الله .
ثانيا : نسبح الله تعالى بنفي الولد عنه سبحانه ، فالخالق لم يلد ولم يولد وليس كمثله شيئ .
أخي الكريم وأنت تقرأ سورة الإخلاص تجد أن الله تعالى يدعوك لذلك ، فعن أُبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: "يا محمد انسب لنا ربك، فأنزل اللّه تعالى: "قل هو اللّه أحدٌ * اللّه الصمدُ * لم يلد ولم يولدْ * ولم يكن له كفواً أحدٌ" أخرجه أحمد "الصمد" الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وإن اللّه عزَّ وجلَّ لا يموت ولا يورث، "ولم يكن له كفواً أحد" ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء.تفسير الطبري
ثالثا : نفي كل نقص وكل عيب عنه سبحانه : فلا ننسب له فقرا ولا بخلا ولا عجزا ولا كسلا كما نسبته اليهود حيث قالوا : أن الله فقير ، قال ابن عباس لما نزل قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة"، قالت اليهود: يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فأنزل اللّه: "لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء" .تفسير ابن كثير .
وقالوا يد الله مغلولة ،قال الله تعالى : " وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ " المائدة 64 ، فوصفوه بالبخل والحاجة إلى الإعانة ، وهذا وغيره لا يليق بكمال وجلال الله تعالى .
رابعا :كذلك أن لا نعتقد بالله تعالى أنه لا يسمع ولا يرى ما نحن عليه في الخلاء والجلاء في السر والعلن ، وقد أخبر الله تعالى : أنه يعلم السر وأخفى .
خامسا :كذلك تنزيهه جل وعلا فلا يذكر في مكان قذر لذلك فلا يجوز الدخول لأماكن نجسة كالخلاء مثلا بأشياء عليها اسم الله تعالى تعظيما لشأنه .
سادسا : كذلك تعظيمه بأن لا يذكر المولى جل وعلا احتقارا وإذلالا وسخرية كما يفعله بعض الجهلة من المطربين حين يذكرون الله تعالى في أغانيهم الماجنة .
فتسبيح الله تعالى يكون بتنزيهه عن مثل هذه الأمور وكذلك بذكره والثناء عليه .
والأعلى : صفة للرب سبحانه فتعالى الله عما يصفه به الواصفون من هذه الأشياء التي لا تليق بجلاله وعظيم سلطانه .
المولى جل وعلا أهلا للتعظيم لماذا ؟
خَلَقَ فَسَوَّى : أي : خلق الخلائق كلها في أحسن صورة وعلى أتم وأكمل تركيب ،
لنأخذ على ذلك أمثلة :
الإنسان : خلقه الله عز وجل في أحسن تقويم وفي أجمل صورة قال الله تعالى : "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) )" التغابن، أي أحسن أشكالكم ، وقوله جل وعلا " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (
" الإنفطار ، أي جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة، منتصباً في أحسن الهيئات والأشكال .
فالمولى جل وعلا أحسن وأبدع وأتقن الصنيع ، فأصل الإنسان كما بينه تعالى وأتبثت العلوم الحديثة من طين ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم يكسى باللحم والعظام ثم يخرج في أحسن صورة فتبارك الله أحسن الخالقين ، قال الله تعالى : "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) " المؤمنون .
أليس الذي صور وأبدع بأحق من العبادة والتعظيم والتقديم في الولاء والحب من غيره ؟
للإمعان : ربما تقودك قدماك في يوم من الأيام إلى زيارة معرضا من المعارض فيلفت انتباهك ازدحام الناس حول لوحات فنانين مشهورين يرسمون على لوحاتهم طلوع أو غروب شمس وغيرها من الرسومات فتقول في نفسك سبحان الله فهل لوحات هؤلاء المشاهير خير وأفضل من لوحات العليم القدير ، فوقفة تأمل والصباح يتنفس بنسائم عطرة وزقزقة عصافير منعشة وخرير مياه النهر هادئة وهادفة وشمس تخرج من صفحة سماء كانت تتزين بنجوم ذهبية ، إنها وقفة إمعان ليس فيه ازدحام توصلك إلى تعظيم الخالق ذون المخلوقين ، بل إن الله تعالى يدعوك للنظر في لوحاته ذون صرف أي مجهود في معرض يحده الشفقين فيقول :" الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)" الملك .قد تجد في لوحات هؤلاء المشاهير تفاوتا وتباينا في رسماتهم وإبداعاتهم ولكن أبدا هل ترى في لوحة بديع السماوات والأرض من تفاوت ، فانظر وكرر النظر ، بل متع نظرك ولا تحرم نفسك من هذا الصنيع الذي يحيي الضمائر الميتة ويشفي القلوب المريضة ، فسبحان الخالق البارئ .
العلماء اليوم يقفون مندهشين في هذه المخلوقات العجيبة التي تسير في نظام محكم ومتقن كما وصفها باريها سبحانه وتعالى :" لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) " يس ، ابتداء من الذرة انتهاء بأكبر نجوم الفضاء تنادي سبحان الذي خلق فسوى .