البيان الصحيح في قصة الذبيح
البيان الصحيح في قصة الذبيح
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والصلاة والسلام على
سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى ءاله واصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد فيقول الله تبارك وتعالى في القرءان الكريم مخبراً عن سيدنا ابراهيم لما دعا الله تعالى:
(رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (سورة ابراهيم ءاية 37).
ونبدأ هذا الحديث عن مولد سيدنا اسماعيل عليه السلام وقصة ماء زمزم فلقد مكث سيدنا ابراهيم عليه السلام مع زوجته سارة في فلسطين واستقر بها
وكانت سارة عقيما لا تلد وكان يحزنها ان ترى زوجها ليس له ولد وقيل انه كان
قد بلغ من العمر ستا وثمانين سنة وهي قد جاوزت السبعين. فوهبت له سارة
هاجر واعطتها لزوجها ابراهيم عليه الصلاة والسلام فقبل ابراهيم ذلك. فلما
دخل ابراهيم بهاجر ولدت له غلاما زكيا هو سيدنا اسماعيل عليه السلام ففرح
ابراهيم عليه السلام بهذا المولود الجديد وكذلك فرحت زوجته سارة لفرحه.
ولما بلغ ابراهيم مع ابنه اسماعيل وامه هاجر مكة وكانت هاجر ترضع ابنها
اسماعيل وضعها ابراهيم مع ابنه عند دوحة (وهي الشجرة الكبيرة) فوق زمزم في
اعلى المسجد في ذلك المكان القفر وليس بمكة يومئذ احد ولا بنيان ولا عمران
ولا ماء ولا كلأ. تركهما هناك وترك لهما كيسا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم لما
اراد العودة الى بلاد فلسطين وقفى راجعا لحقته هاجر ام اسماعيل وهي تقول:
يا ابراهيم اين تتركنا في هذا المكان الذي ليس فيه انيس ولا سمير. وجعلت
تقول له ذلك مرارا وكان يريد ان يطيع الله فيما امره عند ذلك فقالت له:
ءالله امرك بهذا؟ قال نعم. فقالت له بلسان اليقين والمنطق القويم: اذا لا
يضيعنا . ثم رجعت.
ثم صارت ام اسماعيل ترضعه
من ذلك الماء الذي تركه لهما ابراهيم حتى نفد وعطشت عطشا شديدا وعطش ابنها
وصار يتلوى ويبكي من شدة العطش وصارت تنظر اليه وهو يتلوى وانطلقت تفتش عن
الماء فوجدت الصفا اقرب جبل في الارض يليها فصعدت عليه ثم استقبلت الوادي
تنظر هل ترى احدا فلم ترى احدا فهبطت من الصفا حتى بلغت الوادي وصارت تسعى
سعي المجهود حتى وصلت الى جبل المروة فصعدت عليه ونظرت هل تجد احدا فلم تجد
فأخذت تذهب وتجيء بين الصفا والمروة سبع مرات فلما اشرفت على المروة سمعت
صوتا فقالت: اغثنا ان كان عندك غواث فرأت ملكا وهو جبريل يضرب بقدمه الارض
حتى ظهر الماء السلسبيل العذب وهو ماء زمزم فجعلت ام اسماعيل تحوط الماء
وتغرف منه بسقائها وهو يفور وجعل جبريل يقول لها:
لا تخافي الضياع فإن لله هنا بيتا (واشار الى اكمة مرتفعة من الارض) يبنيه هذا الغلام وابوه. روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله ام اسماعيل لو تركت زمزم او قال:
لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً. شربت
هاجر من ماء زمزم وارتوت وارضعت ولدها اسماعيل شاكرة الله الكريم اللطيف
على عظيم فضله ورحمته وعنايته ثم بدأت الطيور ترد ذلك الماء وتحوم حوله ومرت
قبيلة جرهم العربية فرأوا الطيور حائمة حول ذلك الماء فاستدلوا على وجود
الماء فوصلوا الى ماء زمزم واستأذنوا ام اسماعيل ان يضربوا خيامهم حول ذلك
المكان قريبا منه فأذنت لهم واستأنست بوجودهم حولها ثم اخذ العمران يتكاثر
ببركة هذا الماء المبارك الذي خلقه الله في ذلك المكان من هذه البقعة
الطيبة المباركة وشب اسماعيل عليه السلام بين قبيلة جرهم وتعلم منهم
العربية وترعرع بينهم ولما اعجبهم سيرته وخلقه زوجوه امرأة منهم واصبحت مكة
مأهولة بالسكان من ذلك الحين بعد ان كانت جرداء وقفرا موحشا. قصة الذبيح اسماعيل عليه السلام: رأى سيدنا ابراهيم عليه السلام في منامه رؤيا ان الله تعالى يأمره بذبح ولده اسماعيل. ورؤيا الانبياء وحي.
كالوحي في اليقظة ولم يقل:
يا
بني اني رأيت انما قال: يا بني اني ارى في المنام لان الرؤيا تكررت مرة
بعد مرة كما قال النسفي والبيضاوي. فلما استيقظ من النوم سارع لتنفيذ امر
الله تعالى دون تردد فقد قيل: لما اراد ابراهيم ذبح ولده اسماعيل قال له:
انطلق نقرب قربانا الى الله عز وجل فأخذ سكينا وحبلا ثم انطلقا حتى اذا
ذهبا بين الجبال قال له اسماعيل: يا ابت اين قربانك؟ قال له ابراهيم: يا
بني اني ارى في المنام اني اذبحك فانظر ما ترى اي امرت بذلك في المنام فقال
له: يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين. قيل: عرض سيدنا
ابراهيم على اسماعيل ذلك لا ليرجع الى رأيه ولكن ليعلم ايجزع ام يصبر
وليكون اطيب لقلبه واهون عليه من ان يأخذه قسرا ويذبحه قهرا فبدر اسماعيل
الحليم بقوله: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن
شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة الصافات ءاية 102). فكان جواب
اسماعيل لابيه في غاية السداد والطاعة لابيه ونهاية الامتثال والانقياد
واراد اسماعيل ان يخفف عن ابيه لوعة الثكل ويرشده الى اقرب السبل ليصل الى
قصده فقال لأبيه:
يا ابت اجعل لي وثاقا واحكم
رباطي حتى لا اضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينضح عليك من دمي فتراه امي
فتحزن واسرع مر السكين على حلقي ليكون اهون للموت علي واذا اتيت امي فاقرا
عليها السلام مني فأقبل عليه سيدنا ابراهيم برأفة وحنان الاب يقبله ويبكي:
نعم العون انت لي يا بني على امر الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ (سورة الصافات ءاية 103)
اي
خضعا لأمر الله وانقادا واستسلما لأمر الله والقاه على وجهه وقيل: اراد ان
يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حالة الذبح وقيل كان ذلك عند المنحر الذي
ينحر فيه اليوم وقيل عند الصخرة التي بمنى. والله اعلم. وامر
ابراهيم السكين على رقبة ولده فلم تقطع شيئا لان الله تبارك وتعالى لم يشأ
لها ان تقطع فهي سبب للقطع فلا تقطع الا بمشيئة الله تعالى فالله تعالى
خالق للسكين وخالق للقطع.
وارسل الله جلت عظمته لابراهيم عليه السلام
فداء لإسماعيل ذبحا وهو كبش عظيم قيل كان قد رعى في الجنة اربعين سنة وكان
هذا الكبش ابيض عظيماً أملح أقرن ضخم الجثة فذبحه سيدنا ابراهيم بمنى فداء
ابنه اسماعيل عليه السلام.
فائدة:
لما اراد ابراهيم عليه السلام
ذبح ابنه تنفيذا لأمر الله ظهر له ابليس ثلاث مرات عند موضع الجمرات الثلاث
اليوم وذلك ليوسوس له بالمعصية فرماه سيدنا ابراهيم عليه السلام عند هذه
المواضع اهانة له فأمة محمد امروا بهذا الرمي احياء لسنة نبي الله ابراهيم
وفي ذلك رمز لمشروعية مخالفة الشيطان واهانته وليس المعنى للرجم ان الشيطان
يسكن هناك كما زعم بعض الجاهلين.
وقد مدح الله تعالى سيدنا اسماعيل
عليه السلام في القرءان بقوله عز وجل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا﴾
(سورة مريم ءاية 54). وقد ارسله الله تعالى الى القبائل العربية التي عاش
في وسطها والى العماليق, والعماليق هم ذرية عمليق بن لاوذ بن غرم بن سأم
والى اهل اليمن. فدعاهم الى الإسلام وعبادة الله وحده قال تعالى: ﴿إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ﴾
(سورة النساء ءاية 163) وهذا مما يدل على ان دين الانبياء كلهم واحد وهو
الاسلام.
وجاء سيدنا ابراهيم عليه السلام يتفقد
ابنه في مكة المكرمة ثم قال له: إن الله يأمرني بأمر فأخبره بأن الله امره
ان يبني بيتا وهو المسجد الحرام ودله على المكان فعند ذلك تعاونا على بناء
الكعبة ورفعا القواعد من البيت وجعل اسماعيل عليه السلام يأتي بالحجارة
وابراهيم عليه الصلاة والسلام يبني قال تعالى:
﴿وَإِذْ
يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (سورة
البقرة ءاية 127). شيء من سيرته: ذكر من سيرته انه اول من ركب الخيل وكانت قبل ذلك وحوشا فأنسها وركبها
ودعا لها بدعوته التي كان اعطي فأجابته وكان اسماعيل عليه السلام قد تكلم
بالعربية الفصيحة التي اخذها من قبيلة جرهم الذين نزلوا عندهم بمكة بسبب
ماء زمزم الطيب المبارك. وولد له من زوجته الثانية وهي السيدة بنت مضاض
الجرهمي اثنا عشر ولدا ذكرا وعرب الحجاز كلهم ينتسبون اليهم.
ابن الذبيحين: روي
ان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم قال: انا ابن الذبيحين. فأحدهما جده
اسماعيل اذ يرجع نسب رسولنا الاعظم اليه والاخر ابوه عبد الله وذلك ان عبد
المطلب نذر ان بلغ بنوه عشرة ان يذبح ءاخر ولد تقربا وكان عبد الله اي والد
الرسول محمد ففداه عبد المطلب بمائة من الابل وبهذا سمي بابن الذبيحين
عليه الصلاة والسلام. والله اعلم واحكم وصلى الله على النبي محمد وعلى ءاله واصحابه الطيبين الطاهرين والحمد لله رب العالمين